19 - 10 - 2024

وجهة نظري | طفوا النور

وجهة نظري | طفوا النور

تنطلق الصيحة قوية محذرة .. يستجيب لها كل من يسمعها في الحال .. تسرع الأيادى لتطفيء الأنوار، يعم ظلام مقبض موحش، تمتد الأجساد المرتعشة لتحتضن الصغار، يهرول الجميع للدور الأرضي، تتلاقى القلوب الخائفة تلتمس في الجمع قدرا من طمأنينة علها تخفف قبضة الرعب الموحشة، وتهون ساعات الانتظار الثقيلة لتنتهى بسماع صفارة الأمان.

مشهد محفور في ذاكرتي رغم صغر سنى وقتها، فلم أكن  أتممت الخامسة بعد .. لكن المشهد المظلم الغامض بين صيحة التحذير وصفارة الأمان ظل جاثما لايبرح القلب والروح كلما طافت بذاكرتى هذه الأيام من يونيو 67.

لاأعرف لماذا قفزت لذهنى فجأة تلك الصيحة الآمرة المخيفة "طفوا النور".. لماذا ترددت بقوة بعد قرار الحكومة بقطع الكهرباء يوميا لساعات محدودة !!

لم تكن الصيحة مدوية محذرة هذه المرة، بل عمل مطلقها أن تحمل الرسالة أقل قدر من القلق والخوف، آثر أن يستخدم الكلمات المطمئنة حتى يزيل الشكوك والمخاوف - وربما الغيظ أيضا - لم يصرخ في وجوهنا بأنهم سيقطعون عنا الكهرباء لكنه أخبرنا أنه مجرد تخفيف للأحمال.

"طفوا النور" أكاد أسمعها مع صرخة أب مكتومة عاجزة عن سد جوع الأبناء .. أو دفع مصاريف مدارسهم أو شراء ملابسهم وتلبية أبسط احتياجاتهم، ووجه أم حزينة لا تدرى كيف تدبر أحوال بيتها بعدما ابتلع الغلاء ميزانية أسرتها وأفسد كل حيلها للتغلب على ضيق الحال، فاختفت على مائدتها كل ما كان يعد يوما وجبات للفقراء.

صارت كل الوجبات لايقدر عليها سوى الأثرياء!

وملامح شاب شابَ شعره وروحه قبل الأوان، ابتلعت الظروف القاسية أحلامه، لم تعد للطريق ملامح واضحة .. بعدما أطاح الغلاء بقدرته على مجرد الحلم بعمل مناسب وشقة وعروس فكلها أصبحت تعد من المستحيلات.

"طفوا النور" لم يعد يشغلنا كثيرا قطع الكهرباء ..يمكننا أن نتحمل الظلام ساعة أو ساعتين أو حتى ثلاث حتى تمر الأزمة! لكن من أوقعنا في الأزمة!

لا يهم فكلنا نعرف الإجابة .. ولا يهمنا أيضا أن تنتقل الحكومة بكامل هيئتها لمقرها الصيفى في العلمين تمارس فيه مهامها بعيدا عن جو القاهرة الخانق .. فربما في مكاتبها الأنيقة الفخمة يتجلى الإلهام وتتفتق ذهنها على حلول خارج صندوق تحت الطلب الذى كاد الشعب المأزوم الدخول فيه.

ولا يهمنا أيضا تلك الحفلات الصاخبة المتلألئة التي تزخر بها شواطئ المدينة الحلم وينعم بها روادها، يكفينا أن نرى ضحكاتهم لتملأ نفوسنا مكتفين بأن هناك مصريين مثلنا مازالت وجوههم مبتسمة غير عابسة حتى لو كانوا أقلية .

لا يهمنا كل تلك المشاهد لأننا لا نحلم أن نكون جزءا منها.. أحلامنا أبسط بكثير من تلك الحياة المرفهة.

نحلم بالستر، أن تمر أيامنا بسلام .. أن تكفى مرتباتنا الضئيلة طلبات أولادنا دون مذلة سؤال اللئيم.

تعودنا على شد الأحزمة على البطون.. استجبنا لكل من طالبنا بذلك، لم يتخيلوا حجم المعاناة بقدر ما تحملناه في صمت وصبر.

لم نعتد رغد العيش، ندبر أحوالنا قدر ظروفنا الصعبة بجلد نكاد نحسد عليه.

نواجه دوما أزمات غلاء، نتحايل عليها قدر ما نستطيع، لكن لم يعد بمقدورنا الآن القدرة على التحمل، ومع ذلك لا تكف صيحات المسئولين عن مطالبتنا بذلك .. "طفوا النور"

ربما نستطيع أن نلبى مطالبهم فقط لو أخبرونا بدقة كم من السنوات يمكننا التحمل حتى تنتهى الأزمة! ماهى خططهم الفعالة والمحددة زمنيا للخروج من تلك الخنقة! ما جدوى مشاريعهم المليارية ومتى يعود جدواها فعليا على البسطاء! ماهى برامجهم الآنية لتخفيف حدة الأزمة على المطحونين وتخفيف الأحمال عن كواهلهم وعدم الإكتفاء بتخفيف أحمال الكهرباء وقطع النور عنهم! ما هي الوعود التي يمكن أن يطلقوها فتعيد الأمل والأهم الثقة في خطواتهم التالية بعدما بددت خطواتهم السابقة كل بارقة أمل لتحسين الوضع وتخفيف حدة الأزمات!

بمقدرونا أن نتحمل فقط لو رأينا ضوءا في نهاية النفق المظلم ، لكن للأسف لاتدركه عيوننا ويبدو أن هناك من أطفأه تخفيفا للأحمال .

"طفوا النور" أكاد أسمعها خشنة مدوية مخيفة .. أخشى أن يمر وقت طويل قبل أن نسمع صفارة الأمان.
------------------------------
بقلم: هالة فؤاد

مقالات اخرى للكاتب

وجهة نظري | الاستغناء عن الحكومة